ومع احترامنا وتقديرنا للقضاء إلا أننا يجب أن لا نسمح بالإجراءات الاستثنائية، وأن نفرط في حقوقنا الدستورية والقانونية لأنها ستكون في النهاية سيفا مسلطا على الجميع، وينبغي رفض أي مساس بمواد الحقوق والحريات الدستورية للمواطنين، استنادا لضمانات باهتة يعرف النظام كيف يلتف عليها.
إننا ندرك أنه من حق كل دولة أن تحمي نفسها وشعبها من الإرهاب أو الجريمة المنظمة بشكل عام ولكن قوانين مكافحة الإرهاب في العالم كله لا تستدعي التنازل عن الحقوق والحريات الدستورية، بل غاية الأمر في هذه القوانين أنها تحتاج لبعض المرونة الإجرائية والتي يمكن أن توفيرها القوانين العادية كقانون الإجراءات الجنائية، وهي إجراءات لا تتعارض مع مواد الحريات في الدستور، ونحن بالفعل لدينا قانون متشدد يسمى قانون مكافحة الإرهاب وأصبح جزءً من قانون العقوبات المصري وهو القانون 97 لسنة 92.
وكلنا تابعنا الجدل في بريطانيا عند إقرار التشريعات الخاصة بالإرهاب عندما طالبت حكومة بلير بحقها في اعتقال المشتبه بهم مدة 3 أشهر قبل توجيه التهمة لهم أو إطلاق سراحهم، ولم يوافق مجلس العموم بعد توافق كاقة زعمائه إلا على فترة 28 يوما اعتبروها كافية، فالقضية هي قضية إجرائية ولا يمكن أن نقول أن من يتهم بتهمة تتعلق بالإرهاب يجرد من كافة حقوقه الدستورية.
أما من يريدون استمرار نفس صلاحيات حالة الطوارئ من الاعتقالات و التنصت ومنع الناس من السفر بدون مبرر قانوني واستمرار التعدي على حرمة المنازل أو التوسع في الاشتباه.. وغير ذلك من الإجراءات المطلوب إدامتها .. فقانون الطوارئ يصبح أرحم على الأقل أننا نسمى الآن الأشياء باسمها الحقيقي.
التمسك بالإشراف القضائي الكامل على الإنتخابات
فقد طلب الرئيس تعديل المادة 88 وهي المادة التي استندت إليها المحكمة الدستورية العليا عام 2000 في حكمها الشهير بوجوب الإشراف القضائي الكامل على كل اللجان الانتخابية الفرعية والعامة.
والمساس بالإشراف القضائي مرفوض من كل القوى السياسية لأنه يفقد الانتخابات أي ضمانات بنتزاهتها، وهناك رفض كامل لكل مزاعم النظام في هذا الشأن. ومنها انه سيشكل لجنة دائمة مستقلة للانتخابات.
ورغم أن هذا النظام معمول به في الكثير من الدول، ومع إقرارنا بأن فكرة الأشراف القضائي الكامل ربما غير معروفة في كثير من بلاد العالم، إلا أن شيوع ثقافة التزوير وعدم وجود نوايا حقيقية لاجراء انتخابات حرة ونزيهة على ضوء تجاربنا السابقة تجعل الشعب يفقد الثقة تماما في نوايا النظام ويصر على الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية، بل ويطالبون بالتوسع في هذا الإشراف ليشمل كل العملية الإنتخابية من مرحلة إعداد الكشوف الإنتخابية حتى إعلان النتائج والحكم في الطعون الإنتخابية.
صلاحيات الرئيس وتكريس حكم الفرد
ويتعلق جزء من التعديلات بصلاحيات الرئيس الذي زعم أن التعديلات الدستورية ستعزز من صلاحيات الحكومة والبرلمان وهو غير حقيقي بالمرة.
فالمادة 74 الخطيرة التي تعطي الرئيس صلاحيات واسعة في حال تعرض البلاد لخطر يهدد الوحدة الوطنية، وهو تعريف مائع استخدمه السادات في اعتقال كل المعارضين السياسيين في سبتمبر 1981 في قرارات التحفظ الشهيرة.
لاتزال باقية وقد طلب مبارك فقط بادخال تعديل شكلي عليها بأن تتخذ هذه الإجرات بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي الشعب والشورى، وهم شخصيات يعينهم الرئيس نفسه سواء بوصفه رئيسا للجمهورية أو رئيسا للحزب الحاكم وهو ما يعني أن الأمر هو شكلي فقط وأن التعديل لا يعني أي شيئ في حقيقة الأمر، بينما يطالب الجميع بإلغاء هذه المادة أساسا أو وضع ضوابط محددة لتحديد الحالات الخطيرة التي تبرر وتحدد نوعية الإجراءات كما في المادة 16 من الدستور الفرنسي التي تقيد استخدام هذه المادة عند حدود الخطر الذي يهدد بقاء الدولة، أما النصوص الهلامية فهذه ليست إلا وصفة لحكم الفرد,
وفي المقابل نجد الرئيس يطالب بتعديل المادة 136 ليكون من حق الرئيس حل مجلس الشعب متى شاء بدون الحاجة حتى للاستفتاء على القرار.
أي أن الرئيس سيعين الحكومة ويقيلها وسيحل البرلمان وهو يعين ثلث أعضاء مجلس الشورى، وهو ما يعني أنه الدولة وما عدا ذلك هي هياكل شكلية، وهو ما يتناقض تماما مع مبدأ الفصل بين السلطات ويجعل الرئيس مهيمنا على كافة السلطات الفعلية بما في ذلك حل المجالس المنتخبة من الشعب.
تفصيل النظام الإنتخابي للحجر على المستقلين في ظل منع تأسيس الأحزاب
فقد طلب الرئيس تغيير المادتان 62 و94 بهدف اختيار النظام الانتخابي الأمثل:
ومعلوم أن المحكمة الدستورية العليا قد حكمت ببطلان انتخابات مجلسي الشعب عام 1984 و1987 بسبب إجرائها وفق نظام القائمة النسبية المشروطة.
ورأت المحكمة في حينه أن هذا النظام يخل بمبدأ تكافؤ الفرص (مادة وكفالة الحق في الترشيح والانتخاب (مادة 62) وذلك عندما اعطى القانون في حينه الحق فقط للأحزاب في الترشيح أو السماح للمستقلين بمقعد واحد في كل دائرة، مما أخل بحقوق المستقلين وأخل بتكافؤ الفرص بين المواطنيين.
والآن يريد النظام تغيير الدستور لتحصين مثل هذه الخطوة من الطعن عليها وذلك بالنص على اعطاء الأولوية للأحزاب السياسية في النظام الانتخابي.
وبما أن النظام يتحكم في عملية تأسيس هذه الأحزاب التي سيعطيها الأولوية.. وهناك اتجاه لإقرار نظام انتخابات يعتمد طريقة القائمة النسبية المشروطة، وهو ما سيغلق تماما أو يحد من عدد المستقلين.
وذلك لأن الحزب الوطني عانى خلال الفترة الماضية من منافسة نوعين من المستقلين:
أولهما المنشقين عليه بسبب عدم الالتزام الحوبي، ورفضهم لقرارات الحزب بترشيح غيرهم، وهؤلاء يشتتون الأصوات بحسب تقدير الحزب الوطني، ونظام القائمة النسبية سيعزز الالتزام الحزبي لأنه سيغلق امكانية الخروج على قرارات الحزب.
والصنف الثاني من المستقلين هم الإخوان المسلمين والذين يريد النظام منعهم من الترشيح.
وبذلك يؤمم الحزب الوطني الحياة السياسية ويحد من قدرة الشعب على المشاركة السياسية.
ويعد نظام القائمة النسبية في الدول التي تأخذ به جزء من نظام متكامل يتضمن الحق في تأسيس الأحزاب، وبالتالي فلا بأس أن يكون لكل حزب قائمته. وحتى المستقلين يسمح لهم بتكوين قوائم لهم.
ومن هنا فإن هذا التعديل لا يستهدف توسيع قاعدة المشاركة أو تشجيع الأحزاب بقدر ما يستهدف الحجر على العناصر التي لا يريد النظام مشاركتها والتحكم تماما في الحياة السياسية.
التعديلات وسيناريو التوريث
وتتعلق هذه التعديلات بما يضمره الرئيس من نوايا فيما يتعلق بمشروع التوريث:
فنائب الرئيس طبقا للمواد 82 و85 يضطلع بمهام الرئيس عند وجود مانع مؤقت، أو إذا قرر مجلس الشعب محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، والمادة 85 تتحدث عن قيام رئيس مجلس الشعب بمهام الرئيس عند وفاته أو عجزه الدائم لحين انتخاب رئيس جديد، ، ويريد مبارك إضافة رئيس مجلس الوزراء عند تعذر حلول نائب رئيس الجمهورية في تلك الحالات، دون أن يباشر من يحل محل الرئيس السلطات بالغة الأثر في الحياة السياسية، كإقالة الحكومة وحل مجلس الشعب وطلب تعديل الدستور. فهذه السلطات يجدر عدم استخدامها خلال الفترة العرضية التي تنظمها هذه المواد.
وهذا التعديل خبيث ومفصل تماما لخدمة سيناريو التوريث الذي لا يزال مبارك يضمره ويعد له العدة،.
ولولا هذه النية لم تكن هناك ضرورة تماما لهذا التعديل ، وبما أن الرئيس يرفض تعيين نائب له، فإن نيته تتجه لتعين رئيس وزراء (مضمون) قبيل موعد تقاعده يقوم على سلطاته ولكنه لا يتمتع بأي صلاحية لتغيير الوضع الدستوري القائم حتى لا يخل بقواعد اللعبة، ثم يرشح الحزب الوطني جمال مبارك للرئاسة وبذلك يتم سيناريو التوريث.
قضايا هامة مسكوت عنها
وتجاهلت التعديلات المطروحة العديد من القضايا الهامة التي تلح إليها الحاجة لتصحيح بعض القضايا التي تضر بالوضع السياسي والقانوني:
كتعديل المادة 76 بشكل كامل كما تقدم، وتعديل المادة 77 لجعل الرئاسة محدودة بمدتين فقط لفتح الباب أمام تداول السلطة ومنع استمرار هذا الحكم المؤبد.
وتعديل المادة 93 لفض الإشتباك بين القضاء وسيد قراره بخصوص من يحق لهم إقرار صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب خاصة وأننا نشهد صراعا دائما بين القضاء صاحب الولاية الحقيقة في الفصل، خاصة أن وقائع النزاع وقضايا التزوير هي موضوعات إجرائية تمت قبل أن يكتسب المرشح العضوية، وما نراه الآن هو أن عشرات الذين قالت محكمة النقض أنهم نجحوا بالتزوير ومع ذلك هم من يشرعون لنا هذه التعديلات الدستورية بعد أن داس الحزب الوطني على أحكام القضاء.
وتعديل المادة 87 لإنهاء مهزلة الـ 50% عمال وفلاحين حيث أن هذه النسبة أصبحت مهزلة، هو موضوع يخل بتكافؤ الفرص، وهي قضية تجاوزها الزمن ..وباب خلفي للنظام لتسهيل دخول بعض عناصره المجلس، وقد اعترف مؤخرا الدكتور مصطفى الفقي أن 50 لواء شرطة دخلوا مجلس الشعب الأخير كعمال وفلاحيين!!.
وهذا غيض من فيض القضايا المسكوت عنها رغم الحاجة لتعديلها.
والنتيجة هي أن هذه التعديلات ستجعل الدستور مهلهلا أكثر من ذي قبل، مليئاً بالحفر والمطبات، ويضرب بعضه بعضا وتتنافر مواده وتتعارض نصوصه، لأنهم في النهاية يريدون تفصيله بالقطعة، فكل ما يكفل حرية رجال الأعمال الملتفين حول النظام ويضمن استثماراتهم وحماية ممتلكاتهم ورفع أي سيف مسلط على أعمالهم وأنشطتهم، بما في ذلك إلغاء أي إشارة للإشتراكية كنظام سياسي أو حتى بمعناها الاجتماعي وإلغاء جهاز المدعي العام الاشتراكي ، فقد تم إقراره.. وفي المقابل كل ما يمكن أن يكون مدخلا لتكبيل الحريات الفردية والعامة للمواطنين، أو يكبل الحياة السياسية، ويقصي الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية، ويؤدي لاحتجاز التطور الديمقراطي والسياسي في المجتمع سيتم إقراره .
الاستفتاءات وتاريخها
نظامنا للأسف يتمتع بتاريخ أسود في تنظيم الاستفتاءات، فلم يجرى استفتاء واحد منذ حركة يوليو على أسس سليمة وعادلة، وأقربها الاستفتاء على تعديل المادة 76 في مايو 2005 حيث أسفرت النتيجة عن أن عدد من صوتوا فيه كانوا 54% من مجموع المقيدين في الجداول الانتخابية، وهو رقم ضخم جدا، وهو أكثر من ضعف من أدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية التي لم تتجاوز نسبة من صوتوا فيهما أكثر من 24% رغم أن هذه كانت انتخابات تنافسية أنفقت فيها مئات الملايين من الجنيهات وشهدت حملات إعلامية مكثفة.
وطبقا للجنة تقصي الحقائق التي شكلها نادي القضاة فإن نسبة الحضور الحقيقة كانت حوالي 3% فقط. وهو ما يؤكد أن كل هذه الاستفتاءات باطلة ومزورة ولا قيمة لها.
ونحن نتوقع أن تكون نتيجة تعديل 34 مادة من الدستور في أبريل القادم على نفس الشاكلة للأسف طالما استمر النظام يتجاهل الإصلاح الحقيقي ويعادي الشعب وتطلعاته ويلجأ للتزوير للتستر على عجزه .!!
أما عن الاستفتاءات في العالم، فقد رأينا مؤخرا عندما عرض الدستور الأوروبي للاستفتاء، رأينا كيف كانت الحملات المؤيدة والمعارضة على قدم وساق في البلاد الأوروبية التي دعيت لابداء رأيها في الدستور، والكل حاول بحرية إقناع الشعب بوجهة نظره، فصوت الشعب الفرنسي والهولندي برفض الدستور رغم تبني الحكومة في كلا البلدين له، في ظل عملية تصويت نزيهة، واحترم الجميع إرادة الشعب.
والسؤال هنا هل سيسمح لمعارضي هذه التعديلات في مصر بتنظيم حملات إعلامية واجتماعات وتظاهرات في كل ربوع مصر لتفنيد هذه التعديلات بما في ذلك، الحق في الوصول لوسائل الإعلام العمومية على قدم وساق مثل المؤيدين للتعديلات، أمأن النظام سيظل يحتكر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة المملوكة للدولة ويمارس علينا من خلالها البروبجندا والدعاية وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة؟! وهل يمكن لهذا النظام إجراء استفتاء واحد بشكل نزيه ونظيف؟!!
وفي النهاية
النظام يتعامل مع التعديلات بشكل فوقي، واستنادا للوضع السياسي البائس الذي تعيشه مصر ستمرر هذه التعديلات رغم أنف المعترضين -وهم كثر- و لا يعني هذا أنها حظيت بالمشروعية الحقيقية التي ينبغي أن تبنى عليها الدساتير والتي هي عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم وبين سلطات الدولة بعضها ببعض، بل إنني على يقين أن هذه التعديلات ستفتح صفحة جديدة من صفحات القمع والإقصاء السياسي، وبالتالي لن تساهم في تقدم مصر أو تحسين أداء النظام أو صورته على المستوى المحلي والدولي. وستبقى هذه النصوص مجرد نصوص شائهة ليست لها علاقة بالمنطق القانوني، أو بالواقع السياسي، وسنظل نطالب بدستور جديد للشعب للمصري جميعا وليس دستورا للحزب الوطني.
دستور قوي يكفل الفصل الحقيقي بين السلطات، وتقوية سلطة القضاء واستقلاله ليكون حاميا للحقوق والحريات وضامنا لعدم تغول أي سلطة، ويكفل عدالة ونزاهة النظام الإنتخابي، ويضمن مشاركة عادلة ومتساوية لجميع المواطنين، وغير ذلك من القيم المهمة التي تعارف عليها الفقه الدستوري في العالم، ومصر غنية برجالها وخبراتها الدستورية والقانونية والإدارية القادرة على وضع مصر على الطريق الصحيح لو توفرت الإرادة السياسية، وتحررت مصر من قبضة نظام الفساد والقمع الجاثم على صدرها.
ومهما فعلوا سيبقى الحق والعدل دائما فوق القوة، و لن يصح في النهاية إلا الصحيح.
[/right]